فصل: تفسير الآيات (226- 227):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (226- 227):

{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ (226) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)}
{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} أي: يكذبون في شعرهم، يقولون: فعلنا وفعلنا، وهم كذبة. أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح، أخبرنا أبو القاسم البغوي، حدثنا علي بن الجعد، أخبرنا شعبة عن الأعمش، عن ذكوان، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لأن يمتلئَ جوفُ أحدِكم قَيْحًا، خيرٌ له من أن يمتلئ شعرًا» ثم استثنى شعراء المسلمين الذين كانوا يجيبون شعراء الجاهلية، ويهجون شعراء الكفار، وينافحون عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، منهم حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، فقال: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أنزل في الشعر ما أنزل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنَّما ترمونهم به نَضْحَ النَّبل».
أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي، أخبرنا الهيثم بن كليب، أخبرنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا إسحاق بن منصور، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا جعفر بن سليمان، حدثنا ثابت، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه ويقول:
خَلُّوا بَنِي الكفَّارِ عن سَبيلهِ ** اليومَ نضربُكم على تنزيلهِ

ضربًا يُزيل الهَامَ عن مَقِيْلهِ ** ويُذْهِلُ الخليلَ عن خلِيلِه

فقال له عمر: يا ابنَ رواحةَ بين يديْ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حَرَم الله تقول الشعر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خلِّ عنه يا عمر، فلهي أسرع فيهم من نَضْحِ النَّبْلِ» أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا شعبة، أخبرني عدي أنه سمع البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان: «اهجهم أو هاجهم وجبريل معك».
أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني، أخبرنا أبو القاسم الخزاعي، أخبرنا الهيثم بن كليب، حدثنا أبو عيسى، حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري وعلي بن حجر- المعنى واحد- قالا حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان بن ثابت منبرًا في المسجد يقوم عليه قائمًا يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يُؤيّد حَسانَ بروح القدس، ما ينافح أو يفاخر عن رسول الله». أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغفار بن محمد، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث، حدثني أبي عن جدي، حدثنا خالد بن زيد، حدثني سعيد بن أبي هلال عن عمارة بن غزية، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي عن سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اهجوُا قريشًا فإنه أشدُّ عليهم من رشق النبل»، فأرسل إلى ابن رواحة فقال: «اهْجُهُمْ»، فهجاهم فلم يُرْضِ، فأرسل إلى كعب بن مالك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت، فلما دخل عليه قال حسان: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ثم أدلع لسانه، فجعل يحرِّكه، فقال: والذي بعثك بالحق لأفْرِيَنَّهم بلساني فَرْيَ الأدِيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَعْجَل، فإن أبا بكر أعلم قريشٍ بأنسابها، وإن لي فيهم نسبا حتى يخلص لك نسبي»، فأتاه حسان ثم رجع، فقال: يا رسول الله قد خلص لي نسبك، والذي بعثك بالحق لأسُلَّنَّك منهم كما تُسَلُّ الشعرة من العجين. قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان: «إن روح القُدُس لا يزال يؤيدك، ما نافحت عن الله ورسوله»، وقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هاجهم حسَّانُ فشفى واشتفى»، قال حسان:
هَجَوْتَ محمدًا فَأَجبتُ عنه ** وعندَ الله في ذاكَ الجزاءُ

هجوتَ محمدًا بَرًّا حَنِيفًا ** رسولَ الله شيمتُه الوفاءُ

فإنَّ أبي ووالدتي وعِرضِي ** لِعِرضِ محمدٍ منكمْ وقاءُ

فمَنْ يهجو رسولَ الله منكم ** ويَمْدَحُهُ وينصرُه سواءُ

وجبريلُ رسولُ الله فينا ** وروحُ القُدْس ليس له كِفَاءُ

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن أن مروان بن الحكم أخبره أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث أخبره أن أبي بن كعب أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من الشعر لحكمة» قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: الشعر كلام، فمنه حسنٌ، ومنه قبيح، فخذ الحسنَ ودع القبيح وقال الشعبي: كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يقول الشعر، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول الشعر، وكان علي رضي الله تعالى عنه أشعر الثلاثة.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان ينشد الشعر في المسجد ويستنشده؛ فروي أنه دعا عمر بن أبي ربيعة المخزومي فاستنشده القصيدة التي قالها فقال:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر ** غداة غد أم رائح فمهجر

فأنشده ابن أبي ربيعة القصيدة إلى آخرها، وهي قريبة من سبعين بيتًا، ثم إن ابن عباس أعاد القصيدة جميعها، وكان حفظها بمرة واحدة. {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} أي: لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله، {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} قال مقاتل: انتصروا من المشركين، لأنهم بدءوا بالهجاء. ثم أوعد شعراء المشركين فقال: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أشركوا وهجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم {أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} أي مرجع يرجعون بعد الموت. قال ابن عباس رضي الله عنهما: إلى جهنم والسعير. والله أعلم.

.سورة النمل:

مكية.

.تفسير الآيات (1- 5):

{طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ (5)}
{طس} قال ابن عباس: هو اسم من أسماء الله تعالى، وقد سبق الكلام في حروف الهجاء. {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ} أي: هذه آيات القرآن، {وَكِتَابٌ مُبِينٌ} أي: وآيات كتاب مبين. {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} يعني: هو هدى من الضلالة، وبشرى للمؤمنين المصدقين به بالجنة. {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}. {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} القبيحة حتى رأوها حسنة، {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} أي: يترددون فيها متحيرين. {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} شدة العذاب في الدنيا بالقتل والأسر ببدر، {وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ} لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم وصاروا إلى النار.

.تفسير الآيات (6- 8):

{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لأهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)}
{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} أي: تؤتى القرآن وتلقن {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} أي: وحيا من عند الله الحكيم العليم. قوله عز وجل: {إِذْ قَالَ مُوسَى لأهْلِهِ} أي: واذكر يا محمد إذ قال موسى لأهله في مسيره من مدين إلى مصر: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} أي: أبصرت نارًا. {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} أي: امكثوا مكانكم، سآتيكم بخبر عن الطريق، وكان قد ترك الطريق، {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} قرأ أهل الكوفة: {بشهاب} بالتنوين، جعلوا القبس نعتًا للشهاب، وقرأ الآخرون بلا تنوين على الإضافة، وهو إضافة الشيء إلى نفسه، لأن الشهاب والقبس متقاربان في المعنى، وهو العود الذي في أحد طرفيه نار، وليس في الطرف الآخر نار. وقال بعضهم: الشهاب هو شيء ذو نور، مثل العمود، والعرب تسمي كل أبيضٍ ذي نور شهابًا، والقبس: القطعة من النار، {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} تستدفئون من البرد، وكان ذلك في شدة الشتاء. {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} أي: بورك على من في النار أو من في النار، والعرب تقول: باركه الله وبارك فيه، وبارك عليه، بمعنى واحد. وقال قوم: البركة راجعة إلى موسى والملائكة، معناه: بورك في من طلب النار، وهو موسى عليه السلام، {وَمَنْ حَوْلَهَا} وهم الملائكة الذين حول النار، ومعناه: بورك فيك يا موسى وفي الملائكة الذين حول النار، وهذا تحية من عند الله عز وجل لموسى بالبركة، كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت. ومذهب أكثر المفسرين أن المراد بالنار النور، ذكر بلفظ النار لأن موسى حسبه نارا، و{من في النار} هم الملائكة، وذلك أن النور الذي رآه موسى كان فيه ملائكة لهم زجل بالتقديس والتسبيح، و{من حولها} هو موسى لأنه كان بالقرب منها، ولم يكن فيها. وقيل: {من في النار ومن حولها} جميعًا الملائكة. وقيل: {من في النار} موسى و{من حولها} الملائكة، وموسى وإن لم يكن في النار كان قريبًا منها، كما يقال: بلغ فلان المنزل، إذا قرب منه، وإن لم يبلغه بعد. وذهب بعضهم إلى أن البركة راجعة إلى النار. وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: معناه بوركت النار. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: سمعت أبيًّا يقرأ: أن بوركت النار ومن حولها، و{من} قد تأتي بمعنى ما، كقوله تعالى: {فمنهم من يمشي على بطنه} [النور- 45]، و{ما} قد يكون صلة في الكلام، كقوله: {جندٌ ما هنالك} [ص- 11]، ومعناه: بورك في النار وفيمن حولها، وهم الملائكة وموسى عليهم السلام، وسمَّى النار مباركة كما سمى البقعة مباركة فقال: {في البقعة المباركة}.
وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن في قوله: {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} يعني قُدس من في النار، وهو الله، عنى به نفسه، على معنى أنه نادى موسى منها وأسمعه كلامه من جهتها كما روي: أنه مكتوب في التوراة: جاء الله من سيناء، وأشرف من ساعين، واستعلى من جبال فاران فمجيئه من سيناء: بعثة موسى منها، ومن ساعين بعثة المسيح منها، ومن جبال فاران بعثة المصطفى منها، وفاران مكة. قيل: كان ذلك نوره عز وجل. قال سعيد بن جبير: كانت النار بعينها، والنار إحدى حجب الله تعالى، كما جاء في الحديث: «حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» ثم نزه الله نفسه وهو المنزه من كل سوء وعيب، فقال جل ذكره. {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

.تفسير الآية رقم (9):

{يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)}
ثم تعرف إلى موسى بصفاته، فقال: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} والهاء في قوله: {إِنَّهُ} عماد، وليس بكناية، وقيل: هي كناية عن الأمر والشأن، أي: الأمر والشأن، أي: المعبود أنا.

.تفسير الآيات (10- 11):

{وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)}
ثم أرى موسى آية على قدرته، فقال: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} تتحرك، {كَأَنَّهَا جَانٌّ} وهي الحية الصغيرة التي يكثر اضطرابها، {وَلَّى مُدْبِرًا} هرب من الخوف، {وَلَمْ يُعَقِّبْ} لم يرجع، يقال: عقب فلان إذا رجع، وكل راجع معقب. وقال قتادة: ولم يلتفت، فقال الله عز وجل: {يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} يريد إذا آمنتهم لا يخافون، أما الخوف الذي هو شرط الإيمان فلا يفارقهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أخشاكم لله». وقوله: {إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} واختلف في هذا الاستثناء، قيل: هذا إشارة إلى أن موسى حين قتل القبطي خاف من ذلك، ثم تاب فقال: رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، فغفر له. قال ابن جريج: قال الله تعالى لموسى: إنما أخفتك لقتلك النفس. وقال: معنى الآية: لا يخيف الله الأنبياء إلا بذنب يصيبه أحدهم، فإن أصابه أخافه حتى يتوب، فعلى هذا التأويل يكون الاستثناء صحيحًا وتناهى الخبر عن الرسل عند قوله: {إِلا مَنْ ظُلِمَ} ثم ابتدأ الخبر عن حال من ظلم من الناس كافة. وفي الآية متروك استُغني عن ذكره بدلالة الكلام عليه، تقديره: فمن ظَلَمَ ثم بدَّل حسنًا بعد سوء فإني غفور رحيم.
وقال بعض العلماء: ليس هذا باستثناء من المرسلين لأنه لا يجوز عليهم الظلم، بل هو استثناء من المتروك في الكلام، معناه: لا يخاف لديَّ المرسلون، إنما الخوف على غيرهم من الظالمين، إلا من ظلم ثم تاب، وهذا من الاستثناء المنقطع، معناه لكن من ظلم من سائر الناس فإنه يخاف، فإن تاب وبدَّل حسنًا بعد سوء فإن الله غفور رحيم، يعني يغفر الله له ويزيل الخوف عنه.
وقال بعض النحويين: «إلا» هاهنا بمعنى: ولا يعني: لا يخاف لديّ المرسلون ولا من ظلم ثم بدل حسنًا بعد سوء، يقول: لا يخاف لدي المرسلون ولا المذنبون التائبون، كقوله تعالى: {لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم} [البقرة- 150]، يعني: ولا الذين ظلموا.

.تفسير الآيات (12- 15):

{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)}
ثم أراه الله آية أخرى فقال: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} والجيب حيث جيب من القميص، أي: قطع، قال أهل التفسير: كانت عليه مدرعة من صوف لا كم لها ولا أزرار، فأدخل يده في جيبه وأخرجها، فإذا هي تبرق مثل البرق، فذلك قوله: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} من غير برص، {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} يقول هذه آية مع تسع آيات أنت مرسل بهن، {إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} بينة واضحة يبصر بها، {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} ظاهر. {وَجَحَدُوا بِهَا} أي: أنكروا الآيات ولم يقروا أنها من عند الله، {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} أي: علموا أنها من عند الله، قوله: {ظُلْمًا وَعُلُوًّا} أي: شركًا وتكبرًا عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى، {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} قوله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} أي: علم القضاء ومنطق الطير والدواب وتسخير الشياطين وتسبيح الجبال، {وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا} بالنبوة والكتاب وتسخير الشياطين والجن والإنس {عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ}.